lundi 19 septembre 2011

مؤسسة "راند" الأمريكية لبناء شبكات مسلمة معتدلة

أثارت الدراسة الأخيرة التي طرحتها مؤسسة "راند" الأمريكية صخبًا واسعًا بين النخب الإسلامية، وسارع الكثيرون إلى دق ناقوس الخطر مما هو آتٍ من قِبل أمريكا، أو كأننا لسْنا في خطرٍ أساسًا، أو كأنّ أمريكا لم تصرِّح بعدائها نحو الإسلام!.
فهل تستحق تلك الدراسة ـ التي صدرت بتاريخ 27 مارس 2007 في 217 صفحة وحملت عنوان (بناء شبكات مسلمة معتدلة) ـ كل هذه الضجة؟ أم أنها ليست سوى دليل آخر من دلائل الفشل الأمريكي في الحرب مع الإسلام، هذا ما نحاول أن نكشف عنه في هذا المقال.
أهمية الدراسة:
ما دفع الكثيرين إلى الاهتمام بتلك الدراسة، هو صدورها من مؤسسة "راند" والمعروفة بكونها واحدة من أقوى مراكز الأبحاث والدراسات الأمريكية، والتي أُسست في عام 1948 كمؤسسة تابعة لسلاح الجو الأمريكي، غير أنها ومنذ ذلك الحين تصدر تقاريرها ودراساتها لصالح وزارة الدفاع الأمريكية، كما أنّ الإدارات الأمريكية المختلفة لا تجد غضاضةً في الأخذ بتوصياتها، حيث تتميز تقاريرها بأنها تلقى اهتمامًا لدى المؤسسة الأمريكية.
يزيد من أهمية هذه الدراسة أنّ المُشرف على إعدادها "أنجيل سبارا" سبق له العمل بوزارتَيْ الخارجية والدفاع الأمريكية، بينما أحد الباحثين الأربعة "شيرلي برنارد" كانت قد أعدت تقريرا سابقا عن الإسلام صدر في عام 2004، وهي زوجة "زلماي خليل زاده" الذي يشغل منصب المساعد الخاص للرئيس "بوش"، وأحد المقرّبين منه، وواحد من وجوه المحافظين الجدد الذي بات من المتوقع أن تراه في أية قضية متعلقة بالمسلمين، حيث ظهر أولاً في أفغانستان، ثم ظهر في العراق، وفي الأيام الماضية توجّه إلى إقليم كوسوفا المسلم.

هدف الدراسة:
منذ سقوط الاتحاد السوفيتي، بدأت مراكز الأبحاث الأمريكية بالالتفات إلى العالَم الإسلامي، غير أنّ هجمات 11 سبتمبر كان لها تأثيرها الخاص الذي زاد من اهتمام تلك المراكز بالإسلام والمسلمين، فمنذ تلك الهجمات أصدرت مراكز الدراسات الأمريكية عشرات الأبحاث التي تناقش كيفية التعامل مع الإسلام والمسلمين، بما يخدم المصلحة الأمريكية، وقد سبق لمركز "راند" أنْ أصدر دراسةً سابقةً في عام 2004 في الموضوع ذاته، وفي العام الجاري جاءت دراسته الجديدة بعد ثلاث سنوات من العمل.
في مقدمة الدراسة أوضح مؤلفوها الهدف منها، حيث قالوا: "إن المؤلفين في هذا الكتاب يسعون إلى تعلم الدروس من مرحلة الحرب الباردة التي قادتها الولايات المتحدة، ويدرسون إمكانية تطبيقها في العالم الإسلامي، ويقيّمون أداء برامج الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة الإسلامية، ويطوِّرون "خارطةَ طريقٍ" لتمكين شبكات إسلامية معتدلة".
وتؤكد الدراسة أنّ الحرب مع العالم الإسلامي هي حرب أفكار، فيأتي في المقدمة: "أنّ الحرب التي تدور رحاها في كثير من مناطق العالم الإسلامي هي حرب الأفكار، وستُحدّد نتائجها الاتجاه المستقبلي للعالم الإسلامي".
فالحرب هي حرب أفكار، والإسلام المعتدل المطلوب هو إسلام بمواصفات أمريكية، وإذا كانت البروستوريكا خطوة لتطويع الاتحاد السوفيتي بما يخدم المصلحة الأمريكية ، فإن "بناء شبكات مسلمة معتدلة" هو الخطوة إلى "المساعدة في إعادة بناء الديانة الإسلامية من جديد"، كما صرح بذلك تقرير "راند" الصادر في عام 2004 بعنوان: "الإسلام الديمقراطي المدني، الشركاء والمصادر والاستراتيجيات".
خلاصة ما سبق أنّ هدف الدراسة هو ما أخبرنا به الله ـ عز وجل ـ في كتابه الكريم حيث قال: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} البقرة: 120.
الدراسات السابقة:
حتى نتبيّن حقيقة هذه الدراسة الجديدة، من الجيد أنْ نشير إلى الدراسة السابقة التي نشرت في عام 2004 بعنوان: "الإسلام الديمقراطي المدني، الشركاء والمصادر والاستراتيجيّات"، والذي أعاد المركز نشرها في كتاب بعنوان "العالَم المسلم بعد 11/9".
في ذلك التقرير الأول حاولت الدراسة أن تضع فرضية مفادها أنّ تمسك المسلمين بالإسلام سببه هو الفشل السياسي والاقتصادي الذي يواجهونهما، وذهبت الدراسة إلى أنّ المسلمين يربطون بين هذا الفشل وبين أمريكا؛ لهذا انتشرت بينهم "الحركات المتطرفة"، لذلك دعت الدراسة إلى توسيع الفرص الاقتصادية لدى الشباب المسلم.
لا يتسع المقام لمناقشة ذلك التقرير، غير أنّ ما نستطيع أن نوجزه هو أن هذا التقرير راهن على أن شيئًا من الانفتاح الاقتصادي والسياسي كفيل بأن يصرف المسلمين عن الالتزام بالإسلام، وأنه لن تبقى بعد ذلك سوى فئات من الأصوليين يمكن محاصرتها.
ولكن التجربة العملية التي أعقبت هذا التقرير كان لها رأى آخر، فتسبب إجراء انتخابات نزيهة في مصر وفلسطين إلى صعود الإسلاميين، ومع الانفتاح الإعلامي كان الإقبالُ كبيرًا على القنوات الفضائية الدينية؛ ما مثل انتشارًا للإسلام، الأمر الذي ألقى بظلاله على تقرير مركز "راند" الجديد.
من مواجهة الأصولية إلى محاربة الإسلام:
في تقريره السابق، دعا مركز "راند" إلى مواجهة ما أسماه بالإسلام الأصولي والذي ينتظم في عددٍ من الجماعات والحركات الإسلامية ، غير أنّ تقريره الجديد دعا صراحةً إلى تغيير الإسلام نفسه، فبعد أن كانت الدعوة إلى إيجاد "شبكات إسلامية معتدلة" توصية من توصيات تقريره السابق، صار إيجاد هذه الشبكات أمرا لا بديل عنه في التقرير الجديد من أجل تقديم الإسلام الجديد.
وبعد الدعوة إلى "تشجيع إصلاح المدارس الدينية والمساجد"، أوصى التقرير الجديد بدعم "الدعاة الجُدُد الذين يعملون خارج المساجد" والبرامج الإعلامية الإسلامية "المعتدلة".
وهكذا انتقل مركز "راند" من التقرير القديم إلى تقريره الجديد، فبعد الدعوة إلى تشجيع بعض التيارات التقليدية ضد التيارات "الأصولية"، هاجم التقرير الجديد "الأزهر"، وأوصى بضرورة سحب البساط من بين أقدامه الشريفة، وتسليط الأضواء على أماكن أخرى تخرج المعتدلين.
وصار الإسلام التقليدي في المفهوم الأمريكي هو إسلام هؤلاء: "الذين يقبلون بالصلاة في الأضرحة والقبور"، في إشارة واضحة للتيار الصوفي، داعيًا إلى التعامل معهم.
وبعد أن كان التقرير القديم يدعو إلى إدخال الإسلاميين في العمل السياسي، طالب التقرير الجديد بعدم التعامل مع "الإسلاميين الذين لا يرون مشكلة في أن تكون الديمقراطية حاكمة على الدين"، داعيًا بدلاً من ذلك إلى التعاون مع "العلمانيين الليبراليين"، و"أعداء المشايخ" مثل تركيا وتونس، وبعد أن كانت تقارير"راند" تتحدث عن مساندة إسلاميين معتدلين في مواجهة المتطرفين، تم في تقرير 2007 الأخير وضع كل "المسلمين" في سلّة واحدة.
الاعتدال .. ودلائل الفشل الأمريكي:
هكذا لم يجد تقرير "راند" الجديد بدًّا من أنْ يكشف عن حقيقته، ويعلنها صراحةً أنّ الصراع مع العالم الإسلامي هو بالأساس "صراع أفكار"، ويذهب التقرير إلى أبعد من ذلك فيرسم ملامح المسلمين "المعتدلين" أو ما نستطيع أن نسميه بالإسلام الأمريكي أهمها ما يلي:
1- القبول بالديمقراطية: من سمات "الإسلام الأمريكي" قبول الديمقراطية بالمفهوم الغربي، وليس قبولها بما يتواءم مع المبادئ الإسلامية.
2ـ رفض تطبيق الشريعة.
3- الإيمان بحرية المرأة في اختيار "الرفيق"، وليس الزوج.
4 ـ يؤمن بحق الأقليات الدينية في تولي المناصب العليا في الدول ذات الغالبية المسلمة.
5 ـ دعم التيارات الليبرالية.
ولا يقف التقرير عند هذا الحد، بل يضع مجموعة من الأسئلة أشبه باختبار ليقيس المرء نفسه إذا ما كان مع "الإسلام الأمريكي"، أم ضده؛ من تلك الأسئلة:
هل توافق على تطبيق الدولة للجانب الجنائي في الشريعة الإسلامية؟.
هل توافق على تطبيق الجانب المدني للشريعة الإسلامية؟ وهل تؤمن بحق الآخرين في عدم الاحتكام لمثل هذا الجانب والرغبة في العيش في كنف قوانين علمانية؟.
وفي النهاية لا يجد التقرير غضاضة في الدعوة إلى تدريب كوادر عسكريّة من المنتمين لجيوش الدول الإسلامية، من المتصفين بالاعتدال على القِيم الأمريكية؛ للاستعانة بهم عند الحاجة، وفي ذلك دعوة صريحة إلى تأجيج الصراع داخل المجتمعات المسلمة التي يرفض أفرادها "الإسلام الأمريكي".
إنّ تلك التوصيات التي يقدمها تقرير "راند" إنما تؤكد على حقيقة واحدة؛ هي أنّ أمريكا فشلت في السنوات الماضية في حربها مع الإسلام، فلجأت إلى تصعيد تلك الحرب حتى تكون صراع أفكار مكشوفًا لا تغطيه عبارات منمّقة ولا سلوكيات دبلوماسية، ولو نجحت تقارير "راند" السابقة لما كان لهذا التقرير ظهور.
ولنا كلمة:
هكذا سار تقرير مركز "راند" كاشفًا عن أهدافه ومراميه، وإن كان البعض يذهب إلى التضخيم من الخطر الذي يحمله التقرير من توصيات؛ إلا أننا نُدركُ أنّ هذا الدين منصور بوعد الله ـ عز وجل ـ يقول تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} التوبة: 33.
ولكنْ فرقٌ بين الإسلام والجماعات الإسلامية، فإنْ كانت جماعات الإسلام السياسي تصاب بالفشل أحيانًا؛ فإن الإسلام ينتشر بشكل عالمي، وإن "ما نشهده اليوم هو التفاف حول مسألة الدولة (الإسلامية) من خلال حركتَي الأسلمة وبناء الهوية الإسلامية، انطلاقًا من الفرد وصولاً إلى إعادة تأسيس مجتمع"، كما يذهب إلى ذلك الخبير الفرنسي "أوليفيه روى"، فالإسلام في صعود ولا شكَّ في ذلك.
غير أننا أيضًا لا نقلِّل من أهمية مثل هذه التقارير وخطورة تلك التوصيات، ولكننا ندعو المسلمين إلى أن يخرجوا من دائرة "رد الفعل" وانتظار ما تسفر عنه مخططات الآخرين، وإذا كان الأمريكيون يطالبون بإسلام معتدل؛ فإننا ندعو إلى إسلام وسطي عماده العقيدة 
الصحيحة والسير على نهج الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire