خطبة الجمعة للعلامة محمد رمضان سعيد البوطي
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك. سبحانك اللهم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله. خير نبي أرسله. أرسله الله إلى العالم كلِّهِ بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين. وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى. أما بعد فيا عباد الله:
لا أعرف في كتاب الله تعالى صفة يثني بها الله عز وجل على عباده كصفة الرحمة إذ يمتد نسيجها فيما بين أفراد عباده.
تأملوا في هذا الذي يقوله الله سبحانه وتعالى:
(مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ) [الفتح : 29]
(أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ) أي الذين يناصبونهم العداء من الجاحدين، (رُحَمَاء بَيْنَهُمْ) تلك هي الصفة العليا التي وصفهم بها وشهد لهم بها.
تأملوا في قوله عز وجل وهو يتحدث عن العقبة الكؤود التي ينبغي لعباد الله المسلمين أن يتجاوزوها وأن يبذلوا الجهد كله في اقتحامها وتجاوزها، ما هي الأداة الوحيدة التي بها يقتحمون هذه العقبة؟ إنها التراحم، تأملوا في قوله سبحانه:
(فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ * أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ) [البلد 11-18]
وما أعلم يا عباد الله أن شفيعاً يحجز العبد يوم القيامة من سخط الله وعذابه كالرحمة التي كان يعامل بها عباد الله في دنياه، تأتي هذه الرحمة فتحول بينه وبين سخط الله وتحول بينه وبين عذاب الله، وإنما شفيع الإنسان في المآل عمله.
وما أعلم يا عباد الله سلاحاً أمضى في التوفيق الذي قَيَّضَهُ الله لرسوله، أمضى أداةَ فَتْحٍ حققه الله سبحانه وتعالى لرسوله كسلاح الرحمة، ألا تتأملون في قوله سبحانه:
(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) [آل عمران : 159].
وإنما الفتح المعتبر فتح القلوب، أما فتح البلاد والبقاع فذلك شيء يأتي على أعقاب فتح القلوب، افتتح رسولُ الله القلوبَ بالرحمة، ذلك هو السلاح الأمضى.
وتأملوا في تأكيدات رسول الله r لهذه الحقيقة التي بيَّنها كتابُ الله سبحانه وتعالى:
يقول r فيما اتفق عليه الشيخان: (من لا يَرْحَمُ الناس لا يرحمه الله).
تأملوا في قوله فيما رواه الإمام أحمد والترمذي وأبو داود والحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله r قال: (الراحمون يرحمهم الله الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء).
عباد الله: أنا أبحث اليوم على ضوء هذا الذي ذكرته لكم عن الرحمة يسري نسيجها بين عباد الله المؤمنين في هذه البلدة فلم أعثر على هذه الرحمة تجيش بها صدور أكثر الناس اليوم، نعم بحثت فوجدت أن صدور كثيرٍ من الناس خاليةٌ عن هذه الرحمة التي هي أساس محبة الله سبحانه وتعالى للعبد لاسيما صَدْر أولئك الذين أتخمتهم النعمة، أولئك الذين يستغرقون في نعم الله عز وجل فأورثتهم تلك النعم التي أسداها الله سبحانه وتعالى إليهم قسوة في القلب، غَيَّبَتْهُم عن الرحمة، غَيَّبَتْهُم عن هذه المشاعر التي يثني الله سبحانه وتعالى على عباده بسببها، ولعلي لست مبالغاً في هذا الذي أقوله لكم.
لَفَتَ نظري إلى هذه المحنة التي أعدها محنة خطيرة كبيرة ذلك الإجراء الاقتصادي الجزئي – بل الشكلي – الذي اتُّخِذَ حماية لمدخرات الأمة ألا تتبدد وألا تنالها أيدي الأعداء، إن هي إلا ساعات – لا أقول أيام – إن هي إلا ساعات مرت بعد انتشار خبر هذا الإجراء وإذا بأصحاب الأموال الوفيرة والتجارات الكبيرة والمصانع الفخمة يتسارعون إلى شد الأسعار إلى الأعلى جهد الاستطاعة، إذا بهم يبسطون سلطان الغلاء على الأسواق جهد الاستطاعة بدون موجب أو بموجب، بل قبل أن يوضع هذا الإجراء من الناس موضع التنفيذ. هذه الظاهر هي التي جعلتني أتساءل عن الرحمة التي هي أول ما ينعت الله عز وجل به عباده المؤمنين.
عباد الله: إن المثل العربي يقول: مصائب قوم عند قوم فوائد. وإنه لمثل منطقي وواقعي ومقبول عندما تكون مصيبة قومٍ من الأقوام فائدة لأعدائهم أو عندما تكون نعمة قومٍ من الأقوام مصيبة لأعدائهم. أما عندما تكون مصيبة أناسٍ فائدة لأشقائهم فحدث عن شدة هذه المأساة ولا حرج، حدِّثْ عن الألم الممض الذي يجتاح الإنسانية من هذه الظاهرة ولا حرج. سيما وإن الجميع ليعلم أن هؤلاء الإخوة المتخمون بالنعم، هؤلاء الذين تسارعوا إلى ما فعلوا وملؤوا جيوبهم بالعلاوة التي طمحوا إليها وطمعوا بها إنما سرت إلى جيوبهم من استنزاف أولئك الذين يعيشون بالكفاف من الرزق، استُنْزِفَتْ هذه العلاوة من جيوبهم، استُنْزِفَتْ هذه العلاوة نعم من جيوب أولئك الذين لا يتمتعون من الرزق الذي متعهم الله عز وجل به إلا بالكفاف. وأنا أقول ناصحاً ومذكراً: هذا المقدار الذي استُلِبَ أو استُنْزِفَ من جيوب هؤلاء ذوي الدخل المحدود أصحاب الكفاف في الرزق ألا يعلمون أنه بمقدار ما كان في جيوب أصحابه سبباً للعافية، سبباً للصحة، تحول إذ سرى إلى جيوب أولئك المتخمين سرى إليهم وهي جراثيم، وهي عبارة عن أسباب لأدواء علم الله أنواعها وعلم الله كيف تغزو أجسام أناس فقدوا الرحمة التي ميز الله عباده الصالحين بها، أقول لهؤلاء الذين أسرعوا فشدوا الأسعار إلى أغلى ما استطاعوا وبسطوا سلطان الغلاء في الأسواق المختلفة جهد استطاعتهم أقول لهم: ما قيمة المليارات وأضعافها إذا انتابك صداع اشتد عليك، أفقدك راحة يومك وأفقدك منام ليلك وأفقدك الاستقرار في حياتك؟ قل لي أي قيمة تبقى لملياراتك أو لأضعافها لديك؟ قل لي يا أخي إذا جاءك من يقول ليس لك إلا أحد الأمرين إما أن تُسْلَبَ ضياء عينيك وتبقى لك ملياراتك أو يبقى لك ضياء هاتين العينين وتُسْلَبَ فضول أموالك، ماذا تقول؟ إنني لأعلم – وكلنا يعلم – أنك ستنفض اليد عن فضول مالك كلها من أجل أن يبقي الله عز وجل في عينيك ضياءهما.
ماذا تقول لمن يخيرك بين الصمم الكلي تبتلى به وبين بقاء ملياراتك هذه؟ أنا لا أشك أنك ستستغني عن فضول مالك في سبيل أن يبقي الله لك هاتين الأذنين تسمع بهما.
ماذا تقول لمن يخيرك بين المليارات التي تمتلكها وبين بقاء الذاكرة في كيانك ودماغك، إما أن تصبح غداً وقد نسيت حتى اسم نفسك، نسيت ذاتك والدنيا التي من حولك ولك ملياراتك وإما أن تستغني عن فضولها في سبيل أن يبقي الله لك هذه النعمة. هل هنالك خلاف في الجواب المعروف عن هذا السؤال؟!
(الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ) [الملك : 23].
(قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ).
العافية يا عباد الله هي أغلى كنزٍ متعك الله به، فإذا عرفت ذلك فاشكر الله – لا بلسانك – اشكر الله بالرحمة تسديها لإخوانك من حولك أياً كانوا.
استسقى أمير المؤمنين هارون الرشيد بعض خدمه ماءً وكان في المجلس ذلك العالم الرباني الفقيه المحدث طاووس بن كيسان اليماني، جيء بالماء إلى هارون الرشيد، قال له طاووس: مه يا أمير المؤمنين – انتظر – أصغى السمعَ هارون إليه، قال له طاووس: يا أمير المؤمنين أرأيت لو أنك حُرِمْتَ هذه الكأس على ظمأ بم كنت تشتريها؟ قال: بكل ما أملك. قال: فاشرب هنيئاً، ولما شرب فارتوى قال: يا أمير المؤمنين أرأيت لو حُرِمْتَ خروج هذا الماء من جسدك بم تشتري إخراجها؟ قال: بكل ما أملك. قال: يا أمير المؤمنين اتق الله في ملك لا يساوي جرعة ماء.
أقول هذا الكلام لنفسي، وأقول هذا الكلام لكل أخٍ في الإنسانية وفي الله: ماذا أصنع، ماذا تصنعون بالمزيد من المال جعلتُ من هذا المال حجاباً بيني وبين هذا الرحمة تسري من قلبي إلى عباد الله عز وجل الذين ابتلاني الله عز وجل بهم وابتلاهم بي؟ ماذا يفيدني فضل المال، ماذا تفيدني فضوله إذا أُبْتُ غداً إلى الله وقد نفضتُّ يدي عن الزائد من وراء ما أكلت ومن وراء ما لبست ومن وراء ما سكنت فيه ثم ذهبت إلى الله عز وجل أبحث عن الشفيع الذي يحط عني أوزاري فلم أجد هذا الشفيع لأنني لم أدخره لذلك اليوم، وصلى الله وسلم على من قال: (يقول الإنسان مالي، مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ولبست فأبليت وتصدقت فأبقيت).
هذا الذي أقوله أيها الإخوة دفعتني إلى ذلك حرقة إلى أن أقوله آملاً أن يسري كلامي لا إلى آذان هؤلاء الإخوة بل إلى قلوبهم، دفعني إلى ذلك هذا المنعطف الذي نمر به الآن، هذه العصي التي تتهاوى علينا من لدن رب السموات والأرض لتوقظنا من سبات، لتعيدنا إلى صراطه العزيز الحميد، لتوقظنا إلى التوبة، لتجعلنا نؤوب ونتوب عن الانحراف وما أكثره وعن الشرود وما أدومه، أجل نحن نمر بهذه المحنة ولا توقظنا هذه المحنة إلى التراحم؟! ووالله الذي لا إله إلا هو إن أول دواء وأول وسيلة ناجحة تنجينا من هذه المحنة وتنهي هذه العصي التي تتهاوى علينا من لدن رب العالمين، أنجع دواء لذلك إنما هو التراحم يسري بين قلوب عباد الله عز وجل. أمر لم أكن أتوقعه، لم أكد أصدق أذني عندما قيل لي إن الأسعار قد هبَّتْ وإن الغلاء قد بسط سلطانه، لا بالنسبة للأمور التي يمكن أن يجري فيها النقاش بل في كل شيء. أهكذا يكون المؤمن؟! أهكذا يكون التراحم؟! أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم فاستغفروه يغفر لكم.
تاريخ الخطبة
الجمعة، 10 ذو القعدة، 1432 الموافق 07/10/2011
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire