سالم لبيض*
تلعثم
شديد وخشية وخوف وتوجس، وغموض في المواقف، وانحراف في المعاني والدلالات
والنقاشات، وهروب من تناول لبّ القضية المثارة على
خلفية توقيع الأمين العام لحركة نداء تونس، الحزب الحاكم الأغلبي، والوزير مستشار
رئيس الدولة التونسي للشؤون السياسية، محسن مرزوق، مذكرة تفاهم مع وزير الخارجية
الأميركي، جون كيري، يوم 21 مايو/أيار المنقضي، عشية زيارة رئيس الجمهورية
التونسية، الباجي قائد السبسي، إلى الولايات المتحدة.
كلّ تلك الصفات والنعوت تنسحب على الأحزاب السياسية الحاكمة والمعارضة، والتنظيمات الراديكالية المعلومة العداء للولايات المتحدة، والمنظمات النقابية العملاقة للشغّالين والأعراف التونسيين، وجمعيات المجتمع المدني، وكذلك نواب الشعب وممثلوه المنتخبون، ومختلف وسائل الإعلام التي غرقت في مناقشة التفاصيل الشكلية، مستنجدة بخبراء القانون الدستوري الذين نزعوا عمائمهم القانونية، ولبسوا قبعات سياسية تؤيد هذا الرأي، وتناقض ذاك. فلم تصدر مواقف تذكر من أغلبية تلك الأطراف حول مضمون مذكرة التفاهم التي وصفها أصحابها بالاستراتيجية والفعالة وغير المسبوقة في تاريخ العلاقة التونسية - الأميركية، وفي أداء الدبلوماسية التونسية، لا سيما أن تلك المذكرة أُحيطت بهالة إعلامية وحملة تمجيدية، قلّ نظيرها في عالم السياسة التونسية لما بعد 14 جانفي (يناير/كانون الثاني)2011.
بل لقد عمّ الخير رحلة الرئيس التونسي برمّتها، فاستحالت غزوة سياسية إلى بلد العم سام، عادت على تونس بالنعم الكبيرة والمكاسب الوفيرة، كما صوّرتها وسوّقتها وسائل الدعاية، في صورة شبيهة بتغطية رحلات الرئيس السابق زين العابدين بن علي، في زمن الديكتاتورية والاستبداد السياسي وحواشيه الدعائية والإعلامية القاهرة للعقول العصية والضمائر الحيّة.
ولعل أبرز المغانم الاقتصادية والمالية في هذا الاكتساح الدبلوماسي هو ضمان الرئيس الأميركي في الحكومة التونسية، بما يمكّنها، ومن جديد، من اقتراض 500 مليون دولار من المؤسسات الدولية المقرضة، بشروط قيل إنها ميسّرة وبفائض مالي أقل من 3%، علّ ذلك يقلّص من الأزمة المالية الحادّة التي تردّت فيها الدولة التونسية، بعد بلوغ حجم مديونيتها 52% من الناتج الإجمالي الوطني الخام.
كلّ تلك الصفات والنعوت تنسحب على الأحزاب السياسية الحاكمة والمعارضة، والتنظيمات الراديكالية المعلومة العداء للولايات المتحدة، والمنظمات النقابية العملاقة للشغّالين والأعراف التونسيين، وجمعيات المجتمع المدني، وكذلك نواب الشعب وممثلوه المنتخبون، ومختلف وسائل الإعلام التي غرقت في مناقشة التفاصيل الشكلية، مستنجدة بخبراء القانون الدستوري الذين نزعوا عمائمهم القانونية، ولبسوا قبعات سياسية تؤيد هذا الرأي، وتناقض ذاك. فلم تصدر مواقف تذكر من أغلبية تلك الأطراف حول مضمون مذكرة التفاهم التي وصفها أصحابها بالاستراتيجية والفعالة وغير المسبوقة في تاريخ العلاقة التونسية - الأميركية، وفي أداء الدبلوماسية التونسية، لا سيما أن تلك المذكرة أُحيطت بهالة إعلامية وحملة تمجيدية، قلّ نظيرها في عالم السياسة التونسية لما بعد 14 جانفي (يناير/كانون الثاني)2011.
بل لقد عمّ الخير رحلة الرئيس التونسي برمّتها، فاستحالت غزوة سياسية إلى بلد العم سام، عادت على تونس بالنعم الكبيرة والمكاسب الوفيرة، كما صوّرتها وسوّقتها وسائل الدعاية، في صورة شبيهة بتغطية رحلات الرئيس السابق زين العابدين بن علي، في زمن الديكتاتورية والاستبداد السياسي وحواشيه الدعائية والإعلامية القاهرة للعقول العصية والضمائر الحيّة.
ولعل أبرز المغانم الاقتصادية والمالية في هذا الاكتساح الدبلوماسي هو ضمان الرئيس الأميركي في الحكومة التونسية، بما يمكّنها، ومن جديد، من اقتراض 500 مليون دولار من المؤسسات الدولية المقرضة، بشروط قيل إنها ميسّرة وبفائض مالي أقل من 3%، علّ ذلك يقلّص من الأزمة المالية الحادّة التي تردّت فيها الدولة التونسية، بعد بلوغ حجم مديونيتها 52% من الناتج الإجمالي الوطني الخام.
ومن جملة الانحرافات الرئيسية عن موضوع القضية المثارة في
الأروقة السياسية مدى أحقية وأهلية الوزير المستشار للشؤون السياسية في قصر
الرئاسة، الذي يتولى وظيفة لم ينصّ عليها الدستور، ولم يصدر في شأنها قانون منظم،
وغير المنتمي إلى الحكومة، وشرعية إمضائه من عدمه دستورياً، بدلاً من وزير الشؤون
الخارجية التونسية، المغيّب عن حفلة التوقيع البروتوكولية، وما وراء الأكمة من
خلافات شخصية ومنافسات بينية ونزاعات سياسية ورهانات حزبية وولاءات أو اختلافات مع
الإدارة الأميركية، وتوزيع للأدوار المستقبلية. فقد تساءل كثيرون عمّن فوّض
المستشار برتبة وزير للإمضاء باسم الدولة التونسية، من دون أن يكون له تفويض من
رئيس الجمهورية، منشور في الجريدة الرسمية للبلاد التونسية. وقد أجاب آخرون أن
الإمضاء كان بحضور رئيس الجمهورية نفسه، ما يرفع عن المستشار الحرج، وينجّيه من
العثرات القانونية والخروق الدستورية.
لكن
الإمضاء، حسب همس بعض فاعلي الحقل السياسي التونسي، حمل دلالات أخرى، تنحو منحى
رمزياً، وتؤسس لعلاقة تاريخية مع الدولة الكبرى، ومن ورائها حلف الناتو ككل التي
تبحث بدورها عن أوفياء صادقين، يشتركون معها في منظومتها القيمية، ومستعدين
لمعاهدتها على نشر مبادئها وقيمها وتنشئة الأجيال التونسية على الانخراط في اقتصاد
السوق والديمقراطية الليبرالية وحقوق الإنسان الفردية وحماية الأقليات وثقافة
المثلية والجنوسة والنوع الاجتماعي والنسوية، كمراكز اهتمام حكومية، وجب أن تتمتع
بالأولوية، كما أُشير إلى ذلك في مقال الرأي المشترك بين الرئيس الأميركي ونظيره
التونسي المنشور في جريدة واشنطن بوست يوم 20 مايو/أيار 2015.
وإن
الإسراع في إمضاء تلك المذكرة المصنفة على أنها ستكون محددة لطبيعة العلاقة بين
الدولة التونسية والولايات المتحدة الأميركية في قادم الأيام يعدّ، في حدّ ذاته،
استعدادا من أولي الأمر التونسيين، الحديثي العهد بقصري الحكم في قرطاج والقصبة،
لرعاية مصالح الدولة العظمى، وتأمينها في شمال أفريقيا المنطقة الهامة جيو-
استراتيجيا التي تزخر بالثروات الطاقية والموارد الاقتصادية وتعجّ، في الآن نفسه،
بالصراعات المدمّرة المنبثقة عن مصالح القوى الإقليمية وحليفاتها المحلية.
وعلى خلاف
ما رُوج له، في بداية الأمر، من أن الحظوة التونسية لدى الإدارة الأميركية انبثقت
من نجاح الانتخابات التشريعية في 26 أكتوبر/تشرين الأول، والرئاسية في 21
ديسمبر/كانون الأول 2014، ودخول تونس المنتدى الديمقراطي العالمي، وتجلّت تحالفا
بين أعرق ديمقراطية، ممثلة في تجربة الولايات المتحدة، وأحدثها على الإطلاق مجسّدة
في النموذج الديمقراطي التونسي، فقد تبين أن الدولة العظمى التي تقود العالم بصفة
أحادية، وتهيمن عليه منذ تفكك الاتحاد السوفييتي في مطلع التسعينيات، قد عقدت خمس
عشرة مذكرة تفاهم تُرجمت معاهدات مُنح أصحابها من الدول صفة الحليف الرئيسي
للولايات المتحدة ولحلف الناتو من خارجه. ومن هذه الدول من لا صلة لها
بالديمقراطية وبمبادئها وإكراهاتها على الإطلاق، بل منها من زوّر الانتخابات،
وارتكب الإجرام السياسي، واستهان بحقوق الناس أفراداً وشعوباً، ومنها من قتل
الأطفال والنساء وقبرهم جماعيا أو حرقهم، وقام بتصفيتهم عرقيا وعلى أساس الهوية،
كما فعلت إسرائيل، في مناسبات كثيرة، والتي ستشترك معها تونس في صفة الحليف، بعد
أن بلغت درجة العداء بينهما درجة العدوان العسكري المباشر على مدينة حمام الشط في
خريف سنة 1985، ومنها من عرف انقلابات عسكرية، من دون أن يفقده ذلك ميزة الحليف
الرئيسي. ويُعدّ القبول بكل من جورجيا ومولدوفيا وأوكرانيا حلفاء مبجلين خارج
"الناتو" تعبيرا عن رغبة أميركية في موطئ قدم على التخوم الروسية.
ولعلّ آخر المقبولين في نادي الدول الحليفة للدولة العظمى
من خارج حلف الأطلسي قبل انخراط تونس في ذلك النادي هي دول مجلس التعاون الخليجي
برمتها، بعد أن كان الأمر مقتصراً على البحرين والكويت، وذلك على خلفية الصراع مع
إيران وتطورات جبهات القتال الإقليمية المفتوحة في العراق وسورية واليمن.
وأن
تمضي دولة ما على مذكرة التفاهم بأن تكون حليفا رئيسيا للولايات المتحدة خارج حلف
الناتو، فذلك يعني ضرورة أن تلتزم بما يفرضه ذلك التحالف من بنود، منها الدخول في
مشاريع بحث وتنمية وتعاون وتكوين مع وزارة الدفاع الأميركية على قاعدة تقاسم
النفقات والاشتراك في مكافحة الإرهاب وخزن واستخدام قذائف اليورانيوم المنضب
المضادة للدبابات، المحظورة على الأراضي الأميركية، وصيانة المعدات العسكرية
الأميركية خارج الولايات المتحدة، وتوفير التسهيلات والخدمات والبنية الأساسية
والمواقع المتقدمة للجيش الأميركي وجهاز المخابرات وتمكينهما من المعلومات، وبموجب
ذلك، لا أسرار عسكرية وأمنية خاصة بمثل تلك الدول الحليفة.
ولكن،
لا تغني هذه البنود التي تعتمدها الولايات المتحدة أرضية مشتركة مع جميع حلفائها
الرئيسيين خارج حلف الناتو عن التساؤل عما هو خفي في مذكرة التفاهم المبرمة مع
الطرف التونسي، لاسيما أن محتويات تلك المذكرة لا تزال مجهولة لدى الرأي العام
التونسي، ولم تنشرها وسائل الإعلام التونسية، ولم تُحل على مجلس نواب الشعب
لمناقشتها. ويجدد هذا الأمر الشك في حقيقة هذه المذكرة، وما خفي منها، وجدوى
الانخراط في مثل هذه الأحلاف ذات الإكراهات العسكرية الفاقدة للتوازن، فالعلاقة
بين دولة كبرى نافذة دولياً وأخرى صغيرة محدودة الموارد والإمكانات، غارقة في
الديون والأزمات الاقتصادية والاجتماعية، ومهددة أمنياً، لا يمكنها أن تخرج عن
منطق التبعية والهيمنة.
فإذا
أردنا تسمية الأشياء بمسمياتها، وجب الاعتراف بأن للولايات المتحدة مصالح حيوية
واستراتيجية وعسكرية في تونس، بسبب موقعها الجغرافي المتاخم للدولتين الثريتين،
بما تملكانه من احتياطي استراتيجي نفطي وغازي، وغير ذلك من الثروات الباطنية. وإن
تحول إحدى هاتين الدولتين إلى دولة فاشلة ومدمّرة، بعد أن فككتها قوات
"الناتو" سنة 2011، جعلها محل تكالب وصراع مسلح بين أصحاب المصالح من
الدول والجماعات التكفيرية وشبكات المافيا العالمية والمليشيات المسلحة، وخلق منها
منطقة عبور لعصابات الاتجار بالبشر وضحايا الحروب الإقليمية والدولية وفقراء
القارة الإفريقية.
ومن
هذه الزاوية، يمكن فهم وتفسير القبول بتونس حليفا رئيسيا للولايات المتحدة خارج
"الناتو" يحظى بدعم هذه الدولة الكبرى التي تروّج أنها ستساعد الدولة
التونسية على تحديث منشآتها العسكرية والأمنية، ودعمها في مقاومة مخاطر الجماعات
التكفيرية المحدقة.
لكن
ذلك كله سيكون له مقابل وثمن باهظ، قد يصل إلى حدّ استعمال أراض تونسية قواعد
للقوّات الأميركية وحلف الناتو بمجمله، واحتلال موطئ متقدم على الأرض باعتماد
"خدعة" جلد الثور الفينيقية القديمة، وفق ما روّج لمذكّرة التفاهم
البريئة، براءة إخوة يوسف من دم أخيهم، وذلك كله تواصلا مع ما تم سنة 2011 إبّان
الحرب الليبية، زمن الحكومة التونسية بقيادة رئيسها آنذاك، الباجي قائد السبسي.
ويعطي هذا الأمر الانطباع بأن توقيع تلك المذكرة اللّغز، في هذا الوقت بالذات،
يمثل استكمالا لمهمة لم تنته بعد إسقاط نظام العقيد القذافي، تجد الولايات المتحدة
نفسها وكذلك حلف الناتو الذي قاد الحرب آنذاك، في أشد الحاجة لإتمامها، خصوصاً بعد
ظهور داعش في بعض الفيافي الليبية، وتمددها في مدينة سرت الاستراتيجية، ناهيك عن
إنجاز مهام أخرى، قد تكون الجزائر أو الصحراء الإفريقية أو البحر المتوسط مسرحا
لها.
لا شك
في أن الجماعات الليبية المتصارعة، وكذلك كل من الجزائر وأوروبا التي تعيش صراعا
خفيا مع الولايات المتحدة، على الرغم من التحالفات المعلنة، لن تثق في تونس، بسبب
دخولها منظومة الدول الحليفة الرئيسية للولايات المتحدة خارج حلف الناتو، ما قد
يكون له انعكاسات سياسية وعسكرية وأمنية واقتصادية ومالية سلبية مع شركاء تقليديين
وأشقاء مقرّبين للتونسيين.
وسينتج
عن هذا الحلف خروج الدولة التونسية من موقعها المريح تاريخياً في مستوى موقفها من
مختلف القضايا الدولية، وفي الحياد الإيجابي والانفتاح على كل الدول والتجمعات
الإقليمية، وفق ما تقتضيه مصلحتها، أولاً وأخيراً، كما هو معلن على الأقل، بما في
ذلك الدول والتكتلات المنافسة اقتصاديا وعسكريا للولايات المتحدة، مثل الصين
وروسيا، وتجمعات جنوب شرق آسيا وأميركا اللاتينية، وحتى الاتحادين، الأوروبي
والإفريقي. كما سيتحمل التونسيون وزر صراعات الولايات المتحدة، وتوسع دائرة
أعدائها على المستوى العالمي من دواعش وقاعدة وتنظيمات تكفيرية ودول صاعدة منافسة،
من جراء مثل هذه التحالفات، ولا نظن أن الدولة التونسية قادرة، أو مستعدة لتحمل
مثل تلك الأوزار.
ولهذه
الأسباب مجتمعة، فإن مجلس نواب الشعب التونسي، بوصفه مصدرا لأغلب السلطات، مطالب
بتعميق النظر والتفطن إلى المخاطر التي تهدد المصلحة الوطنية من جراء الانخراط في
هذا الحلف الجديد، قبل المصادقة على المعاهدة التي ستترجمه عملياً، وتعطيه الشرعية
القانونية والسياسية التي ستؤثر، من دون شك، على السيادة الوطنية.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire