*قال بورقيبة الهالك :
ھناك عراقيل كثيرا ما يعتبر التونسيون أنّ مرجعھا إلى الدين والدين براء منھا، فالدين خلو من الأوھام القديمة التي يعبر "
."عنھا بسطاء الناس: "بالمكتوب" فيقولون: "كل حدْ وقسمُهْ " و"ربّي ما يخلق نفس كان ما يخلق قسمھا
ونحن اليوم على أبواب رمضان لا يفصلنا عنه إلاّ ثلاثة أسابيع. ومسألة صوم رمضان درستھا طويلا ومن واجبي أن
أبسطھا ھنا بكلّ صراحة بحضور مفتي الديار التونسية الذي اجتمعت به قبل اليوم وتحادثت معه مرّات متكرّرة بشأن ھذا
.الموضوع
إنّ التعبئة التي ندعو إليھا والعمل المتواصل المتحتّم والضروريّ تعترضه عقبات يعتبرھا الشعب ذات مصدر ديني،
فيقول الناس: "أقبل رمضان ولا عمل فيه والأمر لا ينازع فيه منازع"، ھذا ھو الحدّ الذي وصل إليه الأمر … ويقولون:
ھل أسمى لدى المرء من دينه؟ ويرون أنّ صيام رمضان قد يؤدّي بالمرء إلى الإمساك عن كلّ عمل ولا جناح عليه.
.وعندما تريد أن تحاسبه عن تكاسله يتذرّع بالصوم ويتمسك برمضان
إنّ أمّة بأكملھا تسعى ما وسعھا لتنمية الإنتاج القومي، وتبذل جھد طاقتھا في ذلك السبيل، وبين عشية وضحاھا ينھار
.إنتاجھا ويكاد يضمحلّ تماما وتسأل عن السبب فيجيبك بأنّه رمضان
.وتلتفت حولك فلا ترى إلا متثائبا أو مستسلما للنوم
.وھذا أمر لا يمكن أن يستمرّ لأنّه ليس من الدين في شيء
وھذا أقوله ھنا بحضور مفتي الديار التونسية الذي سيخاطبكم مباشرة في الموضوع بعد يوم أو يومين، وأكرّر القول بأنّه
.ليس من الدين، وإنّه إسراف في فھم الدين
إنّ من يكون صائما وقائما بواجبه الديني حسبما يفرضه عليه الإسلام ثمّ يدرك أنّ ضعف بدنه لا يسمح له بالعمل فيستمرّ
في الصوم تاركا العمل .. إنّ من يكون ھذا شأنه لا يقرّه الدين عليه حسبما يراه مفتي الديار التونسية. وسيشرح لكم ذلك
.بنفسه
إنّ لله جعل الدين يسرا لا عسرا، وقد خفّف على عباده جميع الفروض التي تشقّ عليھم وينالھم التعب في أدائھا، والصيام
أشقّ ھذه الفروض على النفس لم يفرضه الإسلام باعتباره ضربا من ضروب تعذيب النفس البشرية. والتعذيب الذي تقرّه
.بعض الأديان لا يقرّه الإسلام ولا يعتبره موجبا للجزاء بالجنّة أو أداة للتكفير عن الذنوب
ھناك أناس يفرضون الحرمان على أنفسھم وينزعون عنھم أثوابھم ويلوذون بالفقر ويلبسون بعض أكسية صوفية ويقنعون
بكسرة من خبز تسدّ رمقھم. والذين يبلغون تلك الدرجة من التصوف ويتعبدون على تلك الصورة لا يقرّھم الإسلام في
.ذلك
التخلّص من الانحطاط كفرض الجھاد
.إنّ ديننا دينٌ جميع فروضه قائمة على العقل والمنطق وغاياتھا معروفة يتناولھا التدريس.. وھي تمرين وتجربة وتطھير
ولكن ما يتعارض منھا مع ضرورة الحياة وما تقتضيه الحياة والكفاح من أجل الحياة فإنّھا تسقط بطبيعتھا ويصبح المسلم
.في حلّ منھا
أن الشغل ضرورة يفرضھا السعي لخروج الأمة الإسلامية عن طور الانحطاط والتخلف، فتونس البلاد الإسلامية تعاني
درجة من الانحطاط تجلب لھا العار في نظر العالم، ولا سبيل لأن ترفع ھذه المعرّة عن جبينھا إلا بالعمل الدائب
المتواصل والشغل المثمر المجدي، والتخلص من ھذا الانحطاط فرض وجھاد حكمه كحكم جھاد السيف. ولذلك فإنه لا
يمكن أن يعرقل جھادھا أو يعطله أو يوقف انطلاقه أو يقعدھا عنه فرض الصوم، فالصوم يحطّ من إمكانيات الفرد ويجعله
.لا يقوى على واجب ھو ليس واجبا شخصيا بل واجب نحو أمّته ونحو دينه
ھذا ما يتعيّن عليكم إدراكه حقّ الإدراك دون أيّ التباس قد يركبه خصومنا الكثيرون مطيّة للتھجّم علينا وحملنا محمل
. إني لا أدعو الأمّة إلى ترك الصيام بل إ ني أقول أنّ تعبا يقعدھم عن شغل حيويّ يكسبكم قوتكم وقوت الكفر والعياذ با
ذويكم ويوفر لكم سببا من أسباب رفع ھذا الدين إلى المستوى اللائق به .. إذا خفتم أن يحول بينكم وبين ھذا العمل
المطلوب منكم لبلوغ ھذه الأھداف السامية، فإن فضيلة الشيخ محمد العزيز جعيط يقول لكم إنّ الدين يجعلكم في حلّ من
الصيام على أن تؤدوا صيام الأيام التي فطرتم فيھا عندما يتيسر لكم ذلك، يوم تحالون على التقاعد مثلا أو عندما تكون
.الظروف مواتية، ليس ھناك مانع ديني يمنع من ذلك
ولكم في رسول لله أسوة حسنة
أما اليوم فإننا نواجه تعبئة عامّة يتعيّن فيھا أن يكون العمل متواصلا لا يعرقله معرقل ولا يوقف اندفاعه شيء. والخطر
.كل الخطر أن يتكسّر الاندفاع وأن يتعطل شھرا أو شھرين بدعوى أن صوم رمضان ھو السبب
إننا في غمرة مشاكلنا ومعاركنا السياسيّة لم نجد وقتا كافيا لدرس السيرة النبويّة بإمعان. ولقد اطلعنا عليھا وعلمنا منھا
الكثير ولكن جوانب منھا لم نھتد إليھا. وقد أرشدني فضيلة الشيخ محمد العزيز جعيط في مجلس جمعنا مع فضيلة الشيخ
الطاھر بن عاشور إلى حادثة في حياة الرسول صلى لله عليه وسلّم دلتنا على رأيه واتجاھه وعلى تصرّفه لو بقي صلى
لله عليه وسلّم حتّى اليوم. يقول فضيلة مفتي الديار التونسيّة إن رمضان أدرك المھاجرين والأنصار وھم يسلكون طريقھم
بقيادة النّبي الكريم إلى فتح مكّة فصام بعضھم وأفطر آخرون، فأراد صلى لله عليه وسلّم أن يشجعھم فأفطر ومع ذلك
تمسك البعض منھم بالصوم فأمرھم بالإفطار وقال لھم :"أفطروا لتقووا على ملاقاة عدوّكم"، حديث شريف وسنّة نبويّة
كريمة كانت مجھولة منا والحال أنھا جديرة بأن تلقى كل يوم جمعة في الجوامع والمساجد، وأن تظفر بما ھي حرية به من
درس وتحليل لقد كان صلى لله عليه وسلم في حاجة إلى جنود الإسلام ليقھر بھم أعداء الدين، وماذا يفيد الدين يا ترى إذا
.تمسكوا بالصوم ثم اندحروا أمام قريش
اردتم أن يكتب لله لكم ثوابا في الدار الآخرة فما عليكم إلاّ أن تعملوا بضع ساعات إضافية خير لكم من صوم لا عمل فيه
.يدفعكم إلى زيادة التقھقر
.وھذه السنة النبوية كشفت القناع عن حقائق دينية كانت مجھولة لا يتعرض لھا الفقھاء خشية من بساطة الناس
وھناك واقعة أخرى في السيرة النبوية حدثنا عنھا أساتذتنا عندما كنا تلاميذ بالمدرسة الصادقية، وھي أن النبيّ صلي لله
عليه وسلم التقى في طريقه برجل يتعبّد في صومعة يقضي ليله ونھاره مصليا، وقيل له أنه زاھد في الدنيا، فسال عمن
يطعمه فقيل له إنه أخوه، وكان حاضرا، فالتفت إليه رسول لله وقال له: إنك أفضل منه لأنك تعمل من أجل إطعامك
.وإطعامه أو كما قال
:الدين لا يبيح القعود عن العمل
ھذا ھو ديننا الحنيف الصالح لكل زمان ومكان والمساير لجميع الظروف، والبلاد التي تدعو فيھا الحاجة إلى الشغل
والعمل والجھاد في منطقة معينة لا يمكن أن يقعدھا الدين عن ذلك، لاسيما وھو دين يدعو إلى الجھاد، وإذا ما قال قائل إن
.الدين يقعد بالمسلمين عن التطور والتقدم فإنّي أردّ عليه بأنه يستحيل أن يكون الدين سببا في تأخّرنا وفي ضعفنا
والأمر لا يدعو إلى اجتھاد كبير، بل يكفي أن نراجع كتب السيرة التي لا تترك مجالا للتردد في الإمساك عن الصوم حالما
يشعر المرء بخطر يھدد بدنه أو شغله أو إنتاجه، أو ينال منه في القيام بواجبه في ھذه الدنيا وفي سعيه ليحظى بعيش
.الكرامة وفي مساھمته لتخليص بلاده من التخلف والانحطاط
إن الدين والحالة تلك لا يطالب بالاستمرار في الصوم ويراه غلوا ولا غلوّ في الدين. ولكنه الجھل جعل الناس يعتقدون
.أمورا ما أنزل لله بھا من سلطان عن حسن نية
وقد تكونت عادات وتقاليد ارتبطت برمضان، لعلھا السبب الرئيسي فيما أصابنا من انحلال عزائمنا في ذلك الشھر، فقد
ألف الناس أسماره الطويلة ومآكله الدسمة وخلاعة ملاھيه وغير ذلك مما يأباه الدين ويجرّ إلى النكبات وفقد الثروات،
.وكثرة المأكل تؤدّي إلى تأزم الأمراض بل ھي التي تثيرھا
كل ھذا يجب أن يوضع له حدّ وأن يتوقّف السھر عند حدّ معقول، لأنه ھو الذي يحول بين الرجل وبين القيام بواجبه في
الغد، فتتكون عادات جديدة وتتبدل المواعيد وينحزم كل نظام وتشحب سحنات وتصفرّ وجوه، ولا يعود أيّ كان يستطيع
أن يقوم بعمل منتظم مثمر، وكلٌّ يشكو رمضان وتعب الصيام. ولعل أكثر الناس شكوى من رمضان اولئك الذين يفطرون
.ولكنھم يتأخرون عن مواعيد العمل أكثر من سواھم
وعليه، فابتداء من ھذا العام تقرّر منع جميع ھذه التصرّفات المخلّة بالكرامة والمفسدة للأخلاق، فلا تتغير أوقات العمل في
المصالح الإدارية، ولا يتجاوز السھر منتصف الليل، ولا تقام الحفلات الراقصة في المقاھي وغير ذلك من الأمور
المزرية، ولنا الكفاية في أعيادنا الدينية والوطنية لنتّعظ ونعتبر، ولا داعي لتواصل عيدنا شھرا كاملا وأن يمتدّ إلى شھر
قبله وشھر آخر بعده، فكفانا استھتارا بالقيم والأخلاق والدين في آن واحد. إنّنا في حاجة إلى القوّة وھذه الدولة بما عرف
عنھا من حزم ونكران ذات واخلاص وحبّ للخير جديرة بأن تلقى من الشعب الامتثال والطاعة والعمل المثمر رغم
.العادات الماضية
ولقد اندحرنا وتقھقرنا ودعانا داعي الجھاد المتواصل فما ضرّنا لو تخلّصنا من جميع العادات الوبيلة وانكببنا على العمل
واتخذنا لنا أفراحا معقولة واضحة المعالم مثل الأفراح الوطنية والدينية، بدون أن نتذرّع بھا للاستھتار والتفسّخ أو لإثارة
الخصومات والخلافات والانزلاق إلى التصارع وتبادل اللكم في سوق العصر والباب الجديد متذرّعين بأنّ ذلك ھو تأثير
.رمضان
.
وما كل ھذا إلاّ توفير لأسباب النجاح في معركة البناء والتشييد وفي التشغيل المستمر، والأمر يعود إلى التفكير وإعمال
.الرأي
والعاطلون الذين نشغّلھم يجب أن يقتنعوا بأننا لا نبغي تمكينھم من الأجور فقط، بل نروم توفير ثروة البلاد والخروج من
.طور الانحطاط الذي يصمنا بوصمة عار باعتبارنا تونسيين وعربا ومسلمين
وإذا ما تحقق ھذا الھدف ولقينا من الشعب الحماس والامتثال والعمل والعزوف عن العادات البالية والمعتقدات الدينية
الخاطئة، وإذا ما واصلنا السير جنبا إلى جنب يدا واحدة، فإننا منتصرون في معركتنا الكبرى؛ معركة بناء دولة حرّة وأمّة
.مسايرة لمقتضيات العصر في مقدّمة الشعوب الحيّة
" والسلام عليكم ورحمة لله
1961- المصدر:الحبيب بورقيبة :خطب، الوزارة الأولى، نشريات كتابة الدولة للإعلام، تونس 1960
(العناوين الفرعيّة موضوعة في المصدر نفسه )
*فتوي الشيخ جعيط:
بسم لله الرّحمان الرّحيم "
و الصّلاة و السّلام على أشرف المرسلين
الفتوى رقم 20 :الأعذار المبيحة للفطر في رمضان
السؤال :ما ھي الأعذار المبيحة للفطر في رمضان؟
الجواب: أوّل ما يلزم معرفته أنّ لله تعالى أمر المسلمين كافّة أن يقوموا بصوم أيّام ھذا الشھر، أي يمسكوا عن شھوتي
البطن والفرج من الفجر إلى غروب الشمس، واھتم بأمر الصوم فجعله من دعائم الإسلام ونصّ على فرضه القرآن والسنّة
وانعقد الإجماع على وجوبه واشتھر ذلك فصار من المعلوم من الدين بالضرورة يخرج منكر وجوبه من حظيرة الإسلام
.ويستحقّ المعتقد وجوبه المتخلّف عن أدائه لغير عذر شرعيّ عقاب لله في الدار الآخرة ذلك ھو الخسران المبين
:و الأعذار الشرعية المبيحة للفطر في رمضان ھي المرض والسفر بنص القرآن المبين قوله تعالى
" . و من كان مريضا أو على سفر فعدّة من أيّام أخر "البقرة 185
وأمّا المرض المبيح للفطر في رمضان فھو المرض الذي يتسبّب الصوم في زيادة آلامه وتأخّر البرء منه، أمّا إذا بلغ
المرض حدّا يكون الصوم معه وسيلة لھلاك النفس فإنّه يجب الفطر منه ويحرّم الصوم. ويجب الصوم على الأصحّاء
أصحاب الأشغال اليدوية الشّاقة المضطرين للشغل للقيام بشؤون حياتھم وحياة أھليھم، وإذا عرض لھم أثناء الشغل في
نھار رمضان عطش شديد أو دوار أو إغماء أو غير ذلك من الأمور المبيحة للفطر، يباح لھم الفطر في ذلك اليوم
.ويقضونه في بقية الأشھر ولا يلزم الشغّالين ترك العمل خيفة عروض ما يفضي إلى الفطر
وھنا أنبّه الصّائمين إلى أن ما يشعرون به من الفتور أثناء الصوم متولّد في غالب الأحوال من مواصلة لسھر الليل كلّه أو
جلّه فيصبح الصائم لقلّة النوم فاترا عاجزا عن القيام بعمله على الوجه الأكمل، وليس ناشئا عن الإمساك عن الطّعام
والشراب بضع ساعات إذا لم يكن الإنسان معتلا. وھذا ما يدعوني إلى التنويه بما أعلنه الرئيس الحبيب بورقيبة على
تحجير فتح دور اللّھو في ليالي رمضان ھذا الشھر المبارك وعلى وجوب إغلاق الدولة المقاھي في الأوقات المعتادة في
أشھر الفطر، الأمر الذي يعين على القضاء على السھر بالقضاء على أسبابه وبذلك نحفظ للجسم صحّته وتوفّر نشاطه
".وتصان الأخلاق من التدھور
المفتي شيخ الإسلام في تونس
محمد العزيز جعيط
(المصدر: جريدة الصباح 14 فيفري 1960 (وقد ألقيت في الإذاعة التونسيّة قبل يوم من نشرھا
( (المصدر: موقع الأوان بتاريخ 16 سبتمبر 2009
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire